مع اقتراب الذكرى الخامسة من عملية"حرية العراق" ينشط مروجو الأكاذيب مجدداً، إلى نسج رواياتهم الخاصة عن الحرب. وآخر تلك الروايات- أو الخرافات في الحقيقة- هي أن استراتيجية زيادة عدد القوات الأميركية في العراق تحقق نجاحاً وذلك حسب الادعاءات القاطعة التي يقدمها لنا كل من بوش، وبيترايوس وجون ماكين، الذي ذهب إلى حد القول "إننا نكسب الحرب الآن في العراق. وعلى الرغم من أن آخرين قد عبروا عن أفكار شبيهة فإنهم لم يكونوا على نفس درجة القطع كما هؤلاء الثلاثة". ومن قاعات "معهد أميركان انتربرايز" التي تبعث على الرهبة، تهف علينا كلمات بليغة تطمئننا بأن كل شيء سينتهي على النحو المأمول. من تلك الكلمات ما سمعناه من"ريويل مارك جيريتشت" الباحث في المعهد، والذي قال إن لحظة الاعتراف بأن"الديمقراطية نجحت في العراق قد حانت"، وما سمعناه من "مايكل ليدين" عندما قال إن"العلامات الدالة على حدوث تغيير كامل في الموقف قد غدت واضحة تمام الوضوح حيث أصبحت أميركا هي الحصان الفائز في العراق، وأصبح العراقيون ذاتهم يقرون بذلك" ونفس هذه النغمة التطمينية لمسناها في مقال كتبه "بارتل بول" محرر الشؤون الخارجية بمجلة "ريسبكت" البريطانية الذي أكد لنا فيه "أن أسئلة العراق الكبرى قد حُلت"، وأن العنف هناك "لم يعد عنفاً سياسياً"، وأن أي فوضى متبقية هناك "لم تعد على نفس الأهمية التي كانت عليها من قبل". ولم يقتصر الأمر على ذلك حيث ذهب "فريدريك كاجان" الباحث المقيم، والمدافع القوي عن استراتيجية زيادة عدد القوات إلى القول بأن "مصداقية هؤلاء الذين تنبأوا بالجحيم في العراق قد وصلت إلى أدنى درجاتها". وعلى ما يفترض، فإن "كاجان" وزملاءه يريدوننا أن نصدق أن الأحداث الأخيرة في العراق تقوم دليلاً على صحة النبوءات التي سادت عامي 2002- 2003، والتي كانت تبشر بأن الحرب الوقائية ستصبح أداة رئيسية من أدوات السياسة الخارجية الأميركية، في حين أننا نرى أنهم عندما يقومون بتحويل بؤرة النقاش الآن بحيث يتركز على التكتيكات، فإنهم يسعون إلى تحويل اهتمامنا بعيداً عن مظاهر الفشل الشديدة الوضوح للاستراتيجية الأميركية الأساسية في ذلك. وإذا ما خلُصنا من كل ذلك إلى السؤال:ما الذي حققته سياسة زيادة عدد القوات في العراق على وجه الدقة؟ فإن الإجابة وبعبارات محددة هي: ليس الكثير. فعلى الرغم من انخفاض مستوى العنف في بغداد والأنبار، فإن علامات الخلل السياسي والاقتصادي الذي يكتنف العراق قد أصبحت أكثر وضوحاً من ذي قبل. من تلك العلامات ذلك الاتفاق الأخير على إعادة تأهيل بعض "البعثيين" السابقين، على الرغم من قلة المؤشرات الدالة على حدوث مصالحة بين السُنة والشيعة، ومنها أن الحكومة قد أصبحت متداعية، وأن العراق ذاته قد أصبح غير قابل للسيطرة، وغير مستجيب، ومعتمداً على الولايات المتحدة في كل شيء، بل وغير قادر على حماية حدوده ورعاية شؤونه. فمشروع بناء العراق الذي دشنته الولايات المتحدة متوقعة أن ذلك المشروع سيكرر قصص النجاح الأميركي في إعادة البناء والتعمير التي تحققت في ألمانيا واليابان بعد عام 1945 لم يحقق شيئاً يذكر إلى درجة أنه يتضاءل إذا ما قارناه مثلاً باستجابة الولايات المتحدة لإعصار "كاترينا": فالكهرباء حتى الآن لا تفي سوى بنصف الاحتياجات اليومية للمواطن العراقي، وإنتاج النفط لم يصل بعد الآن إلى المستويات التي كان عليها قبل الغزو، أما قصص الفساد والغش وانعدام الكفاءة على نطاق واسع فيما يتعلق بالتصرف في المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة، فهي أكثر من أن تعد أو تحصى. ويمكننا أن نضيف إلى كل ما سبق الفساد المتفشي بين الوزراء والمناورات السياسية والجدل العقيم في البرلمان العراقي حول أمور تافهة، وبشكل يعوق أي تقدم على الرغم من الشكاوى العديدة التي قدمها المسؤولون الأميركيون دون جدوى. وإذا ما كانت المهمة الأولى لأي حكومة في العالم هي توفير الخدمات الأساسية، فإنه يصعب علينا أن نقول إن هناك حكومة حقيقية في العراق. علاوة على ما تقدم توافرت في الآونة الأخيرة أدلة عديدة تشير إلى أن الولايات المتحدة بصدد التخلي عن جهودها الرامية إلى إقامة حكومة عراقية قادرة على العمل والإنجاز في بغداد. إن تقديم الأسلحة والأموال لزعماء السُنة المتمردين، كان مبادرة نعزو إليها الانخفاض المؤقت للعنف في العراق حالياً بأكثر مما يمكن أن نعزوه إلى تدفق أعداد إضافية من القوات الأميركية على هذا البلد. قصارى القول، إن تدفق قوات إضافية إلى العراق، لم يغير شيئاً من وضع العراق الذي وصفه وزير الخارجية السابق "كولين باول" بقوله إن العراق قد كُسر بشكل لا يمكن إعادته إلى ما كان عليه من قبل، وهو ما يعني أن القول بأن أي زيادة في القوات يمكن أن تعيد هذا البلد إلى ما كان عليه لن يكون سوى خرافة كبرى. فالمأزق الأميركي هناك لا يزال مستمراً، حيث تقف أميركا هناك حائرة بين خيارين: الاستمرار في ضخ الأموال والتضحية بالأرواح الأميركية دون أن تكون هناك نهاية تلوح في الأفق، أو تخفيض خسائرها والتعامل مع عواقب ذلك. وإذا كان هناك نجاح يمكن أن نعزوه إلى استراتيجية ضخ أعداد زائدة من القوات، فإن هذا النجاح يتمثل في إخراس أصوات المطالبين بانسحاب سريع للقوات الأميركية من العراق. وهذا النجاح- ومن هذا المنظور فقط- هو الذي مكّن "الصقور" الذين كانوا قد أطنبوا من قبل في الحديث عن المخاطر التي يمكن أن تنتج عن الانسحاب، من الادعاء الآن بأن الشرط الضروري لاستمرار هذه الحرب، ونقل تبعاتها على كاهل الرئيس القادم، هو إبعاد أخبار العراق عن الصفحات الأولى من الصحف الأميركية. من هذا المنظور فقط، يمكننا اعتبار أن ضخ أعداد زائدة من القوات، كان بمثابة ضربة معلم. من موقعه الجديد ككاتب عمود في "النيويورك تايمز"، كتب "ويليام كريستول" مؤخراً مقالاً يعرب فيه عن قلقه من احتمال أن يتمكن بعض الساسة بسياساتهم المستهترة" أن ينتزعوا الهزيمة من بين أنياب النصر". وما أقوله له إنه يجب عليه ألا يقلق لأن النصر الذي تحقق في الشهور الأخيرة يكاد يضمن أن الولايات المتحدة ستظل "حبيسة بين فكي العراق" خلال المستقبل المنظور على الأقل. والنجاح في العراق لن يتحقق بدون خسائر بشرية ومادية؛ فعدد الجنود القتلى في العراق وصل الآن إلى 4000 جندي، وبقاء جيشنا هناك يكلف البنتاجون ما بين 2 إلى 3 مليارات دولار أسبوعياً. ونظرا لأنه لا يمكن إجراء تغييرات جوهرية على الوضع في العراق خلال الفترة الممتدة من الآن إلى انتخاب رئيس جديد، فمن المتوقع أن يستمر نزيف الدماء والأموال الأميركية في العراق إلى مدى غير محدد. حصيلة حرب العراق كانت مختلفة جد الاختلاف عما كانت إدارة بوش تسعى إليه في البداية، والذي يمكن تلخيصه كما يلي: تحويل العراق إلى قاعدة مركزية للقضاء على الإرهاب الجهادي وتحويله إلى منارة للديمقراطية يمكن احتذاؤها في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي. باختصار لم تكن الإدارة الأميركية حين قامت بالغزو تنظر إلى بغداد باعتبارها محطة وصول، ولكنها كانت تنظر إليها باعتبارها نقطة انطلاق نحو تحقيق غاياتها النهائية. لكن ما حدث في الواقع كان شيئاً مختلفا تماماً عن ذلك حيث تحول العراق إلى مأزق استراتيجي، وأظهرت الحرب هناك حدود القوة الأميركية، وزادت المشاعر المعادية لواشنطن بمستويات قياسية، وتحول العراق إلى أرض لتجنيد الإرهابيين، وتَعزز وضع الخصوم مثل طهران، وتحولت الموارد والاهتمام عن أفغانستان، التي تندلع فيها حرب ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتهديد الذي تمثله "القاعدة". وهكذا، فإنه بدلاً من تجفيف ينابيع الجهاديين، فإن الحرب أدت إلى تزويد تلك الينابيع بمدد إضافي. طبقاً لما يقوله أكثر أنصار الحرب حماسة، فإن نقاد بوش قد أصبحوا "مشبعين بفكر الهزيمة لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على رؤية معالم التقدم الذي يتحقق في الواقع". ولكن من يقولون ذلك ينسون أن شيئاً مماثلاً يمكن أن يقال عن هؤلاء الذين أصبحوا غارقين حتى آذانهم في أوهام عقيمة عن استمرار الحرب ولم يعودوا قادرين على رؤية الحقائق ومنها أنه بضخ أعداد زائدة من القوات أو من دون ذلك، فإن حرب العراق تبقى خطأً استراتيجيا فادحا لا يؤدي الإصرار عليه سوى إلى مفاقمته. اندرو. جيه. بيسفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"